مساعي الجهات الدينية الفاعلة في بناء اقتصادات مستدامة تضع مصلحة الناس فوق كل اعتبار
العمل اللائق يضفي مغزى محمود لحياتنا؛ فهو يمنحنا قوام وكرامة وغاية، فضلاً على أنه يعزز إحساسنا بأهمية المجتمع ويشجعنا على التصرف بروح أخلاقية من أجل الصالح العام. فعندما يساورنا شعور بأننا فقدنا عملاً ذا مغزى وهدف أو حتى فشلنا في العثور عليه، سوف يضل أكثرنا -ولا شك- الطريق.
حتى وقت قريب قبيل تفشي جائحة-19، نسبة الشباب الذين حُرموا فرص العمل والتعليم والتدريب بلغت 22%. وتفشت هذه الجائحة فتضاءلت فرصهم أكبر مما كانت عليه على إثر اضطراب أسواق العمل في جميع أنجاء العالم حيث تلاشت حوالي 500 مليون فرصة عمل بدوام كامل أو ما يعادلها في الربع الثاني من عام 2020. وبالتطرق إلى الاقتصاد غير الرسمي، لا تزال قوت عيش حوالي 1.6 مليار فرد مهددة. علاوة على ذلك، أثر هذا الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي المستمر على النساء على نحو غير متكافئ مما يهدد التقدم المحرز في مجال المساواة بين الجنسين في العقود الأخيرة ويهدد بشكل كبير الازدهار طويل الأجل ورفاهية المجتمعات المستضعفة في كل مكان.
خلال أوقات الأزمات والاضطرابات، توفر العمالة الهادفة قدر فائق من المرونة والأمل؛ فالعمل اللائق قد يكون حافزًا لتعزيز التماسك الاجتماعي وإرساء مبادئ السلام. في الوقت الذي تضع منظمات ومؤسسات القيم الدينية الصحة العامة في مقدمة أولوياتها، فإنها تؤدي أدوارًا مهمة في إعادة الناس إلى عملهم بأمان في إطار تعزيز هدف التنمية المستدامة رقم 8.
يسعى هدف التنمية المستدامة رقم 8 حثيثًا إلى تعزيز النمو الاقتصادي المستدام والشامل والعمالة الكاملة والمنتجة وتوفير العمل اللائق للجميع. ومصطلح «الاستدامة»، في هذا الصدد، يعني زيادة كفاءة الموارد المستخدمة في الاستهلاك والإنتاج وفصل النمو عن التدهور البيئي بينما يعني مصطلح «الشمولية» تكافؤ الفرص والأجر لقاء العمل ذي القيمة الواحدة ويعني أيضًا دعم رواد الأعمال والمؤسسات الصغيرة من خلال توفير سبل الوصول إلى الخدمات والأسواق المالية. لتكليل المساعي بالنجاح، يعمل شركاء الأمم المتحدة مع الحكومات والمجتمعات بغية تحقيق مستويات أعلى من الإنتاجية من خلال اللجوء إلى التنويع والابتكار التكنولوجي. وتحقيق هدف التنمية المستدامة رقم 8 يهيبنا بحماية حقوق العمال وتعزيز بيئات عمل آمنة ومأمونة والقضاء على صور العبودية الحديثة والاتجار بالبشر والعمل القسري وعمالة الأطفال.
لطالما عملت منظمات ومؤسسات القيم الدينية معًا لتحقيق هذه الأهداف. وفي مطلع عام 2019، اجتمعت الجهات الدينية الفاعلة المرموقة الذين ناصروا العدالة الاقتصادية بصفتها واجب أخلاقي في مقر منظمة الأمم المتحدة في نيويورك لمناقشة تمويل التنمية المستدامة. وقد تمحور الاجتماع حول مناقشة مفهوم اقتصاد الحياة الذي يفضل الأفراد على الأرباح ويحتضن إدارة الموارد المستدامة.
شاركت مبادرة الأديان المتحدة، وهي شبكة عالمية للأديان، في فعاليات هذا الحدث. فمشاريع الفرص الاقتصادية التابعة لمبادرة الأديان المتحدة تهدف إلى تمكين المجتمعات المستضعفة من ممارسة حقوقها في العمل بكرامة. ففي نيجيريا، تدافع مبادرة الأديان المتحدة وشركاؤها عن صغار المزارعين عن طريق التصدي للشركات العملاقة التي تحاول الاستيلاء على أراضيهم. وفي الهند، يقدمون المساعدة القانونية والتدريب على العمل لانتشال نساء القبائل من فخ الاستغلال. وفي منطقة البحيرات العظمى بأفريقيا، يساعدون في كسر حلقة الفقر من خلال تمكين النساء من الحصول على الوظائف المناسبة.
حضرت اللجنة الدولية للعدالة الاجتماعية التابعة لجيش الخلاص قمة «اقتصاد الحياة» التي أعقبها إطلاق استراتيجيتها المعنونة «الكفاح من أجل الحرية» الرامية لإنهاء صور العبودية الحديثة والاتجار بالبشر. وتدعم الحملة الناجين وتعالج الأسباب الجذرية الكامنة وراء تفشي هذه الشرور. ومن جانبها، توجه منظمة الرؤية العالمية دفة استراتيجية التمكين الاقتصادي الخاصة بها نحو إحراز الهدف المنشود، وهو إنهاء عمالة الأطفال واستغلالهم. وللمنظمة المسيحية دور في تعزيز فرص العمل المستدامة وأنظمة السوق التي تساعد الأسر الفقيرة على الاعتماد على نفسها اقتصاديًا حتى يتمكن أطفالهم من مواصلة المسيرة التعليمية بدلاً من الانخراط في العمل. وعندما تُتاح للأسر سبل عيش منتجة وقادرة على التكيف مع الظروف المحيطة، فإن أفق مساعيها لا تقتصر على مجرد البقاء على قيد الحياة بل تتطلع إلى العيش بكرامة ونزاهة. في السياق نفسه، تعمل منظمة الرؤية العالمية أيضًا على تعزيز الشمول المالي من خلال زيادة الوصول إلى الأسواق ومجموعات الادخار وخدمات التمويل الأصغر.
تعمل منظمات القيم الدينية بصفتها جهات رائدة في تقديم مبادرات تمويلية صغيرة في الكثير من مجتمعات العالم الأكثر فقرًا. علاوة على ذلك، تشجع برامج التمويل الصغيرة التابعة لخدمات الإغاثة الكاثوليكية العملاء على الادخار والاستثمار في المشاريع الصغيرة المدرة للدخل ومساعدة الأسر والمجتمعات الفقيرة على تحقيق نمو مستدام. وهذا النهج المُتبع أتاح بدوره فرصًا اقتصادية لملايين الأشخاص في عشرات البلدان النامية. وفي نفس الصدد، تستخدم منظمة الإغاثة الإسلامية بالولايات المتحدة التبرعات بصفتها قروض تمويل صغيرة لمساعدة خبراء التجميل والنساجين وأصحاب المتاجر وغيرهم من رواد الأعمال في باكستان على بدء أعمالهم التجارية أولاً ومن ثم تنميتها. وعندما يسدد المستفيدون قروضهم، يُعاد استخدام نفس الأموال للمساعدة في انتشال الآخرين من براثن الفقر.
تعمل الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية على تمكين المصريين المحرومين اقتصاديًا - لا سيما النساء والشباب المعرضين للخطر والأشخاص ذوي الإعاقة - وذلك باستخدام ممارسات التنمية المستدامة حيث تعزز دوراتهم التدريبية التي تستهدف المهارات التقنية والإدارية إمكانية توظيف هؤلاء الباحثين عن العمل وتأخذ بأيدهم ليحصلوا على العمل اللائق. كما تصدر الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية آلاف القروض الصغيرة لمساعدة المصريين الفقراء على بناء مشروعات اقتصادية توفر لهم وللآخرين فرص عمل هادفة. على عكس القروض التقليدية، يصاحب هذه القروض دعم عملي مستمر مما يمكّن المستفيدين من تعزيز مصالحهم وحقوقهم.
تضم منظمة "ديجني Digni" 20 جمعية إرسالية وكنائس نرويجية تعمل جاهدة للحد من براثن الفقر، وتدعم مشاريعها القائمة على التمكين الاقتصادي معاهد التدريب على المهارات ومراكز ريادة الأعمال التي تعد الفئات المحرومة وتؤهلهم للعمل في جميع أنحاء العالم. ويساعد برنامج التمكين الاقتصادي الذكي مناخيًا التابع لمنظمة المعونة الكنيسة النرويجية صغار منتجي الأغذية على انتشال أنفسهم من براثن الفقر من خلال تسهيل سبل وصولهم إلى ما يلزمهم من معدات وتمويل فضلاً عن الانخراط في الأسواق مما يؤدي بدوره إلى زيادة الإيرادات وفرص العمل المتاحة، لا سيما لصالح النساء والشباب. ويضم «اتحاد عمل الكنائس معًا» 130 كنيسة ومنظمة بروتستانتية وأرثوذكسية في أكثر من 120 دولة تهدف إلى إحداث تغيير إيجابي ومستدام يخدم الفقراء والمهمشين جنبًا إلى جنب مع علاج الفقر المترسخ من خلال تدريب المزارعين على تقنيات الزراعة المستدامة التي تعزز قدرة المجتمع على الصمود والتكيف مع الظروف المحيطة.
لقد حققت مساعي منظمات ومؤسسات القيم الدينية نجاحًا باهرًا بفضل قدرتها على إتاحة وظائف هادفة ذات مغزى وتحسين ظروف سوق العمل والحد من الفقر في جميع أنحاء العالم بفضل باعث العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي تضعها في مرتبة أعلى من تحقيق الربح. ولأنهم مؤمنين حقيقيين بأهمية اقتصاد الحياة، تعمل الجهات الدينية الفاعلة على تمكين المجتمعات الأكثر فقرًا في العالم، كما أنها شركاء حيويون في تعزيز النمو الاقتصادي المستدام والشامل والعمل اللائق للجميع.