إدارة أزمات الأوبئة: القيادات الدينية وتأثيرها الاجتماعي
سرديات التاريخ الكبرى والصغرى أكدّت لنا ولا تزال تُؤكّد بأنّ المجتمعات الإنسانية تفتقر الى الخبرة البشرية المُتراكمة عند مواجهة هجمات الأوبئة الفتّاكة، فتجد نفسَها لا تُجيد التعامل مع تلك الفيرُوسات الشَرسة التي تعتمد في انتشارها على العدوى السريعة، ما يَجعلُ الانسان يدخل في اختبارٍ قاسٍ وتحدٍّ صعبٍ، بحُكم أنّها تظهر فجأةً مرّةً كلّ قرنٍ، فيستحيل على التّجمّعات البشرية إيجاد طُرقٍ فعّالة وحُلولٍ طارئةٍ، تساعدهم في تلك المواجهة الملحمية في خضم التّشابكات الحاصلة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتّي زادت من تعقيد المُشكلة.
ولأنّ القائد الديني –مؤسسات وأفرادًا- أضحى يُشكّل جزءًا لا يتجزأ من قيادة المجتمعات، مِن خلال مهامه المتمثلة في التأطير والإرشاد والتّوجيه، شأنُه كشأن القائد الثقافي (المثقف والمفكر) والقائد السياسي (النخبة السياسية)، فهذا الأخير يتولَى صُنع وإصدار القرار الاستراتيجي المناسب لمواجهة خطر الأوبئة بالتّحالُف مع القيادات الصّحية (العُلماء والأطبّاء)، وهنا نقوم بتوجيه أنظارنا بعد صدور القرار الى الانسان المتلقّي البسيط الذي يتلقّى التعليمة ويتفاعل معها، هل هو جاهز أم لا؟ هل لديه القابلية اللّازمة لاستقبال تلك القرارات؟
حينما أعلن المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس يوم الأربعاء 11 مارس 2020 أنّ المنظمة التابعة للأمم المتحدة باتت تعتبر فيروس كورونا المستجدّ المسبّب لمرض [كوفيد-19] الذي تفشَّى في مختلف أرجاء المعمورة، دخل العالَم في حالةٍ مِن الفوضَى الكبيرة وانتشر الهلع والفزع في أوساط الناس وكذلك في المؤسسات المعنية، التي سارعت الى التّعاون سويًا من أجل العمل على انحسار ذلك الفيروس القاتل والحدّ مِن انتشاره، حيث تُعتبر هذه المرحلة الطارئة من التاريخ البشري حرجةً، تتطلب تصدُّر القادة الدِّينيين المَشهد بما يحملونَه مِن قُدرةٍ على التأثير الكبير على الأفراد والمجتمعات، بحُكم أنّهم عبارة عن محرّكات أساسيَةٍ وتوعويةٍ مهمّة لا تقلُّ أهمية عن دور القيادات الصِّحية وغيرها من الفاعلين الاجتماعيين في هذه الأزمة العالمية الطارئَة.
ففي أدبيات الأديان الابراهيمية لا تنحصرُ أدوار القيادات الدينية داخل مجتمعاتهم فقط في مجالات ممارسَة الطٌقوس والشّعائر، بل تتعدّى الى مجالاتِ الهداية الدّنيوية والأخروية، بصفتهم وريثًا شرعيًا وتاريخيًا للأنبياء والصّالحين والقِدّيسين الذين سعوا منذ فجر التّاريخ الى بناء مجتمعاتٍ صالِحَةٍ وسويّةٍ، والى تنفيذ الأجندات الإلهية المقدّسَة والمتجسِّدة في العبادة وإعمار الأرض، مع العمل ليلًا ونهارًا على تجنيب أقوامِهم الكوارِثَ وبحثِ سُبل الخروجِ منها، لهذا فظهور الأوبئة الفتّاكة والفيروسات القاتلة يُعتبر مِن الكوارث المُندرجة ضمن خانَة (الأزمات)، وللخُروج منها يجب على المجتمعات -بقيادة عقولها- رسم خُطّةٍ عاجلةٍ وفعّالة مِن أجل الوصُول الى برّ الأمان بأقلّ الخسائر، حيث أنّ هذه الخطوات تُسمَّى: إدارة الأزمات.
إن إدارة الازمات تعتمد في الأساس على الحلُول الاستثنائية العاجِلة التي بدورها يلزمُها حاضنةً تتلقّاها وتحتضنُها دون وجودِ عارضٍ أو عائقٍ، ومثلما ذكرنا أعلاه فمهمّة القائد الدّيني في هذه المرحلة الحسّاسة هي توفير البيئة الحاضِنة المناسبة لاستقبال القرارات العاجِلَة وتعبيد الطريق مِن أجل إيصال خطابات ورسائل القادة السياسيين (الحُكام) والصِحيِّين (الأطباء) الى وعي أفراد المجتمع الخائفين، هذا الوَعي هو تلك الحاضِنة المقصودة، ففي مثل هذه الأزمات الصحية العالمية الكلمة الأولى والأخيرَة للعلم والطِبّ لتطويق فيرُوسات كورونا وذلك سعيًا الى تخفيض حجم التكاليف البشرية والاقتصادية، اعتمادًا على قرارات سياسية وأمنية صارمة تحت تغطيَةٍ دينية تُوفّر المناخ الملائم، من خلال اقناع المجتمع بضرورة الاستجابة الفورية لتوجيهات القيادة الصِحيّة والتقيّد بالانضباط، وكذلك الابتعاد عن كلِ ما يُضعف أدوات جاهزية المجتمعات للتأقلُم مع الأوضاع الجديدة.
القيادات الدينية في هذه الأزمة وحتّى تنجح في إدارتِها، عليها قبل كلّ شيءٍ كسر الصُّورة القديمَة المُشوّهة والتّي تُصورها على أنّها هيئة لاهوتية دأبها الوحيد هو التسابق نحو تقديم تفسيراتٍ دينية للأوبئة مرتبطة فقط بالعقاب والعذاب الالهيين، بدلا مِن توظيف النصوص الدّينية في سبيل مخاطبة الوعي الجمعي (عقل المجتمع) لعقلنَة عاطفة صاحبها، فالقائد الدّيني مُلزمٌ بالحفاظ على الأبدَان أولًّا ثُمّ الأديان، بالاعتماد على ترتيب الأولويات التّي تجعل "السّبت لأجل الإنسان وليس الانسان لأجلِ السّبت"، لهذا وبصفته شريكًا اجتماعيًا في صِناعة هذه القراراتِ الحاسِمة يفرضُه الواقِع ومُقتضياته، يسعَى جاهدًا لتبسِيط خطابات وقراراتِ كلٍّ مِن القيادة السياسية الصحية ليتمّ استيعابها مِن طرف أفراد المجتمع أثناء الأزمة، والسّهر على ضبط النّفوس ولجم غضبِها كردُودِ فعلٍ ناتجة عن مرحلة ما بعد الأزمة وما تتركه من آثارٍ اقتصادية واجتماعية ونفسيةٍ تنعكس على قابلية خضوع أفراد المجتمع للقرارات والتعليمات والارشادات، فيُؤدي ذلك الى خلق فوضى كبيرة تُدمِر البلاد والعباد.
بلغُة السوشيال ميديا الحديثَة يُصبح القائد الديني مؤثرًا اجتماعيًا لما اكتسبه مِن ثِقلٍ ووزنٍ في حياةِ الناس، تستعين به مراكز صُنع مختلف القرارات الاستراتيجية لتوصيل المضمُون بما يتوافقُ مع احتياجات أفراد المجتمع البُسطاء مع ضمان أمن وسلامتهم الصحيّة والاقتصادية وكذلك الفِكرية، وتسويق الأفكار الوقائية بصفته همزة وصل يربط بين صانِع القرار والمجتمع، مع ضرورة التنبيه الى أهمية انفتاح القادة الدّينيين على مستجدّاتِ الواقع وتسارع حركة الحياة بأطوارِها وتطوراتها، مِن أجل التمكُّن مِن دراسة وفهم احتياجات المجتمعات الدنيوية والدينية، لإعادة ترتيبها ضمن قائمةٍ مدروسة تتكوّن من خانتين: الضروريات والكماليات، للانطلاق وفق ما تحتويه تلك القائمة لتلبيَة الحاجات والطلبيات.