أي دور للمؤسسات الدينية في مواجهة تسونامي الكورونا؟
في البَدْإِ كان إلحادا فيروسيا لدى الكثير من المؤمنين، بينما جحد بالكورونا آخرون واستيقنته أنفسهم، إلى حين صَدَعَتْ العولمة بأنّه لا عاصم اليوم من أمر الله وأنّ الفيروس تربّع على جغرافية العالم ودَوَّنَ أثره البليغ على صفحات التّاريخ المُعاصر بأرقام وإحصائيات مَهُولة كسابقةٍ اهتزّت لها الهياكل الحكومية؛ وفي سياق التصدّي لهذه الجائحة طبّقت الدُّوَل إجراءات صارمة لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أبرزها شلّ كل مظاهر التّجمهر والتي شَمِلت حتى دور العبادة –المساجد والكنائس- ممّا أثار جدلا واسعا وحُزنا كبيرا في نفوس المُريدين لأنهم لم يستوعبوا بعد أن هذا الفيروس يُهزم استراتيجيا وليس طبّيا، الأمر الذي استدعى التدخّل السريع لقيادات ومؤسسات دينية على نطاق واسع لبيان مقصد أولوية حفظ النّفس البشرية وتوافقه مع ضابط التقويم الإلهي الدّائم وهذا ما جعل الوعي الجمعي ينتقل من جدلية المقدّس إلى التفكير في حاضر الأزمة وما هو آتٍ كجرعة ثقة رتّبت الأولويات اجتماعيا وسَرَّعت من وتيرة التلبية لنداء حالة الطوارئ، ناهيك عن موجة الخطاب الديني الموجّهة التي حَمَلَت في طياتها إرشادات طبّية وتوعويّة وسلوكية قُدّمت في وعاء ديني مُسْتَساغ لدى الجماهير في صورة أوْضَحت الاستجابة الشاملة وفاعلية القادة والمؤسسات الدينية إبّان الأزمة مقارنة بنِسبِ التفاعل مع الخطابات الأخرى سياسية أو إعلامية كانت، فحتى منظمّات الصحة في الوطن العربي لم تلقى رجع الصدى المُتوقّع من حيث الالتزام بالتعليمات لدى الأفراد لأنّهم اختاروا التعاليم بحكم الطبيعة الدينية لهذه المجتمعات في عمومها، وهنا اتّضحت جليّا الضّرورة الملِحّة لاستثمار الظاهرة الدينية سوسيولوجيا وإقحامها إستراتيجيا على مستويات مؤسّساتية واسعة وكشريك أساسي ودائم نظرا للدّور المنوط بالمؤسسة الدينية والقائد الديني في المساعدة على تخطّي الأزمات لاسيما وأن دورهما الكلاسيكي إيماني بامتياز ويمتلك قوّة الكلمة الكفيلة ببعث بوادر الصبر والتهدئة النفسية عند الأفراد ودرء حالة الخوف والهلع ودحض الشّائعات التي تُفضي إلى الفوضى وكبديل بسيكوسوسيولوجي يُسهم بشكل كبير في عمليّة امتصاص الصّدمة، وبالتالي تذليل إحدى الصعوبات التي تواجهها أجهزة الدّولة عادة وفسح المجال أمامها لتطبيق بروتوكولاتها في احتواء الأزمات.
علّمنا فيروس كورونا أنّ المؤسسة الدينية بمختلف قياداتها مُولّد اجتماعي لتعبئة الجهود الميدانية العمليّة وقوّة دفع تُسيّر أعمق المشاعر، فعلى سبيل المثال لا الحصر نشهد أبهى صُور التّكافل والتضامن هنا وهناك استنادا لمبادئ إسلامية نبوية عنوانها: "وطعام الواحد يكفي الاثنين..." بالإضافة إلى حملات التبرّعات والمبادرات الشبابية لدعم حكوماتها بدل انتظار الإعانات منها –كما هو معهود- في محاولة للمحافظة على الموازين الاقتصادية محليّا وتجسيدا لقوله تعالى: " فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ" هذه القيم رفعت من أسهُم المسؤولية الاجتماعية على الفردانية منها وأعادت أزمتُنا الجامعة للأذهان أن الكرامة الإنسانية متأصّلة في كل فرد وتُمثّل حيّزا من الوجود الكلّي وليس المِلكية.
كما أبانت جائحة الكوفيد 19 عن جانب مظلم أيضا واِهتراء في منظومة الأخلاق العالمية وانسداد في قنوات التكافل العولمي وصار العلاج في زمانها أسوأ من المرض ! وانكشفت هشاشة أنظمة حكومية لقوى عالمية كبرى تذّخر ما يكفي من أسلحة الدّمار الشّامل لمَحْو كوكبنا من درب التّبانة في حين لم تجد ما يسدّ حاجتها من كمّامات وأجهزة التنفّس الاصطناعي..، وأقل ما يقال هنا: أنها مفارقة صارخة تستدعي على وجه الإلزام إعادة النّظر في سُلّم الأولويات النّمطية لعدم جدواها، خصوصا وأن تقارير المراكز البحثية والدولية أكّدت أن الاقتصاد العالمي يسير بوتيرة انكماش رهيبة تُنذر بتداعيات وخيمة تقفز جراءها معدّلات الفقر والهشاشة الاجتماعية، فالمتوقع مثلا أن يخسر أكثر من 1,7 مليون شخص وظيفته في العالم العربي وخسائر بالجملة في قطاعات حيوية أخرى على المستويين الإقليمي والدولي.
إن تداعيات الأزمة الوبائية تُسفر عن انفلات اقتصادي تنهار معه المنظومات الاجتماعية والسياسية والأمنية، وسيناريوهات ما بعد الكورونا تراوحت ما بين السّيئ والأسوأ ! والراجح أن مجموعة الآفات المتراكبة على شكل هرم مقلوب (كالبطالة والفقر والصحة ومشاكل التعليم والتسرب المدرسي ونسبة الوعي وفقدان الأحبة..) ستكون حدّتها أعلى من المألوف، وهذا ما يخلق تحدّيات حقيقية تدعونا للاستجابة الإنسانية أكثر من ذي قبل وضرورة انخراط مؤسسات المجتمعات الدينية بمختلف توجّهاتها لما تحظى به من قَبُول في طبيعة الوعي العميق للأفراد وبالأخص أنه تم رصد عودة دينية قوّية على وسائل التواصل الاجتماعي كانعكاس شرطي أفرزته الأزمة، لأن الدين من الأنساق الفاعلة اجتماعيا و مؤثر إيجابي لضبط السلوك الإنساني؛ وعليه فإن المؤسسات الدينية ومن يُمثّلها من قيادات لها من الأدوار الإستراتيجية التي لا ينبغي أن ننأى عنها، ولا بد من إشراكها كهمزة وصل تبادلية ما بين الحكومات والأفراد لإضفاء الصبغة الدينية على آليات الضبط الرسمية أولا واستحداث لجان إدارية دائمة تُعنى بإدارة الأزمات على مستوى المؤسسات الدينية ثانيا كدينامية مرجعية تعمل على التنسيق الشامل مع هيئات ومنظّمات المجتمع المدني والأفراد وفيما بينها أيضا -مؤسسات دينية مسيحية وإسلامية- شريطة التحيين والرصد المطّرد ومتابعة التطوّرات والمُتغيّرات الاجتماعية واستيعاب جميع البدائل المطروحة مع مراعاة آليات متطلّبات القرار وتقديم تقارير دورية للحكومات.أما من الجانب التطبيقي وجب إطلاق حملات تكوينية وتدريبية على جناح السّرعة لتأهيل كوادر من رجال الدين تُمكّنهم من ازدواجية المهام والقدرة على الاستعداد التام لمواجهة الأزمات واستشرافها والتقليل من آثارها لأن الاحترافية هنا ضرورة ملحّة وتتطلّب ردود أفعال غير تقليدية.
في فلك كل المتغيرات التي تحوم حولنا الآن والألم يبقى إيماننا ثابتا يمدّنا بالأمل الذي يحسُن الجزم معه بأن قيادتانا ومؤسساتنا الدينية هي إحدى سُترات النّجاة أمام موجة تسونامي الكورونا.