مما لا شك فيه أن المعتقدات الدينية تؤثر حتمًا على سلوك معتنقيها، وهذا أمر لا يختلف عليه اثتان، حيث يهرع الأفراد في كل المجتمعات الدينية إلى التماس النصائح من رجال الدين للتعامل مع ومواجهة ما ألمّ بهم من صروف الدهر، لكن هل هذا يعني أن الأفراد تصبح أكثر تدينا عند حلول الكوارث الطبيعية؟

لقد واجهت البشرية على مدار تاريخها تحديات كُثر، آخرها ما يشهده العالم من انتشار قوي غير مسبوق لفيروس كورونا المستجد الذي صنفته منظمة الصحة العالمية أنه "جائحة"، الأمر الذي فجر مجموعة من القضايا ولزم طرحها على طاولة المناقشة ومنها دور الأديان في التعامل مع أو مواجهة هذه النوعية من المواقف الكارثية!

في ظل هذه الظروف الاستثنائية التي ضربت العالم كافة وجسدت المعني الحرفي لمفهوم "العولمة"، طفا على السطح مجموعات داخل المجتمعات الدينية المحتلفة وأرادوا الصيد في الماء العكر من خلال الترويج لفكرة أن هذا الوباء ما هو إلا "عقاب إلهي"، فهؤلاء يزعمون أن الله إنما أراد هذا الوباء  ليكون"عقاب"، بحسب تصورهم المريض، "لغير المؤمنين" والعصاة! ومن ثم قرر هؤلاء الامتناع عن الالتزام بالاجراءات الاحترازية الوقائية الخاصة بتعليق الصلوات في دور العبادة، لأنه بالطبع الوباء لا يصيب المؤمن!

إن مثل تلك الفرضيات ليست جديدة على المجتمعات الدينية، بل إنها موجودة وبالفعل تؤثر على المجتمع نتيجة انتشار وسائل التواصل المختلفة ومنها بالطبع وسائل التواصل الاجتماعي أو السوشيال ميديا؛ وهنا بات من الضروري تناول قضية انتشار الوباء من منظور آخر يفسر حالة الحزن والخوف والتحديات التي تعيشها الإنسانية في وقتنا الحالي.

بالإضافة إلى وجود هذا الوباء الذي يهدد حياة الكثير، فإننا في الحقيقة نواجه نوع آخر من الأوبئة أكثر شراسة، وهي منهجة التفكير "المنحرف" الذي يهدد السلام في العالم كافة؛ نعم إنه وباء "التعصب" و "االأيدولوجية المتطرفة" التي تأتي على الأخضر واليابس وتهدم المفاهيم والتعاليم الدينية الصحيحة على المستويات كافة.

إن الأديان، السماوية وغيرها، ليست مسؤولة عن سوء الفهم أو انتشار خطاب الكراهية، إنما المسؤول الأول عن ذلك هو منهجية التفكير نفسها التي ينتج عنها حالة من التجمد في تصنيف الآخر ووضعه في منطقة الاختلاف غير المرغوب فيه، ولذا فإننا بحاجة ماسة إلى مواجهة فيروس "التعصب" في نفس الوقت الوقت الذي نواجه فيه فيروس كورونا.

قد يفرض البعض خطأ أن الأديان هي السبب في انتشار الصراع الطائفي والحروب وسفك الدماء؛ بينما في كل مرة يتم إلصاق مثل هذه التهم إلى الأديان، يتضح أن السبب وراء تلك الجرائم هو التفسير الخاطىيء المشوه للنصوص الدينية التي ساهمت في نشر كل ألوان الشرور التي نراها ونعاني منها في المجتمع في وقتنا الحاضر؛ إنما الأديان هي مصدر للسلام وعلاج للمشكلات التي يواجهها أتباعها من المؤمنين.

من هنا يصبح "حوار الأديان" آلية هامة من متطلبات وقتنا الراهن في مواجهة وباء التطرف والتعصب الديني، وهذا أصبح الشغل الشاغل لعمل المؤسسات الدينية بهدف نشر التفكير السليم المتعلق بتعاليم الأديان التي جاءت في الأساس من أجل سلام وحماية الإنسان.

إن "الإنسان" هو محور الكون في الأديان كافة، وكل التشريعات جاءت لحماية الأرواح والتمسك بمنهجية "الإنسانية" في التعامل مع الآخر. إلا أن التحدى الأكبر في هذا المقام هو "كيف يمكننا تحقيق والالتزام بهذا الاحترام تجاه الآخر المُخالف لنا في العقيدة؟" هذا ربما يكون أشبه بنفس الحال مع انتشار الوباء "كورونا"، فنحن في الحالتين أمام كارثة طبيعية تحتاج إلى حل!

لقد اتفقت المجتمعات الدينية والمتخصصين في علوم الأديان أن هناك أمور أخرى علينا أن ننظر أو نفتكر فيها عند حلول أو نزول الكوارث الطبيعية ألا وهي كيف ندرك الحِكمة من حدوث هذه الحوادث كما أرادها الدين. ومن أهم هذه الأمور التي لابد من التفكر فيها هو إلى أي مدى نقدر الحياة والنعم التي وهبها لنا الخالق دون أن نسأله؟! إنها فرصة عظمية ليعيد الإنسان النظر في منهجية تفكيره أو موقفه من الكون والناس أجمعين. هل نحن حقًا نقدر نعمة الصحة والعائلة وكل أصناف الرزق التي وهبها لنا الخالق؟ فهذه هي طريقة التفكير "الصحيح" التي يجب أن تكون حاضرة في ذهن كل مبتلى في أوقات الضيق والشدة.

في هذا السياق لابد من التركيز على الدور الذي تقوم به المؤسسات الدينية المعتمدة كي تدعم التعددية والتعايش السلمي بين الأفراد، وهي مهمة ليست سهلة، وإنما غير مستحيلة. بلغة أخرى، إن قبول الآخر لا يستلزم أن يكون من نفس عقيدتي، إنما يكفي لتحقيق هذا المفهوم أن نشارك معا وجبة طعام شهية ونتجاذب أطراف الحديث في أمور الحياة والمجتمع، وهذه هي بداية اتخاذ الطريق الصحيحة نحو "التفكير الصحيح" الذي يتميز به مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز لحوار الأديان والثقافات (كايسيد)، في سعي دائم وحرص بالغ لأن يكون العالم أكثر سلاما ومكان آمن للعيش المشترك للجميع، يكمن سر هذا النجاح في وجود زملاء وزميلات لكايسيد من مختلف البرامج تجمعهم لحظات "إنسانية حقيقية" أثناء التفاعل والمشاركة طوال فترات التدريب والدراسة، حيث ينتهي بهم الأمر إلى وجود عائلة من المجموعات متعددة الأديان في كل مكان في العالم تعمل جاهدة لتطبيق وتنفيذ ما عاشوه وتعلموه من خلال هذه التجربة الثرية التي يمكن أن نطلق عليها "رحلة إلى العمل والتفكير الصحيح".

إن ركيزة التعليم الأساسية في الأديان كافة هي أن يكون لدينا نظرة شاملة "متوازنة" للموقف بشكل عام بما يحويه من أبعاد إيجابية وسلبية حتى نصل إلى نتيجة. إن التفكير الصحيح بلغة أخرى هو النظر إلى الحياة والعالم بنظرة متوازنة لا من خلال نظارة وردية، هنا نذكر كلمات النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي حدد لنا المنظور المتوازن لمفهوم الإنسانية والتعامل مع الآخر حين قال: " أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى"، التقوى هنا في هذا النص النبوي الشريف تشمل معانِ الحب والسلام والرحمة تجاه جميع الخلق دون استثناء، ومن ثم علينا أن نخفض الجناح في التعامل مع الآخر ونستغل قدراتنا ومواهبنا التي حبانا بنا الخالق كي نجعل العالم مكانا أفضل لا أن نسعىى في تدميره.