القيادة الدينية ...مسؤولية كبرى في مواجهة وباء كورونا المستجد ـ كوفيد 19
إذا كانت مسؤولية السياسيين هي تدبير الشأن العام و تشريع القوانين و الحفاظ على الأمن المجتمعي وتوفير الحاجيات الأساسية في وقت الاستقرار و السلم ، و إذا كانوا يسارعون لإيجاد الحلول للمشكلات و الأزمات الطارئة في الأوقات العصيبة ، فإن القيادات الدينية و الزعماء الروحيين تناط بهم المسؤولية ذاتها في كلتا الحالتين في السراء و الضراء ، في سياق التكامل بين الأدوار و تحمل المسؤوليات التي تقع على عاتق كل من القيادات السياسية من جهة و القيادات الدينية من جهة أخرى تجاه مجتمعاتهم .
إن القيادات الدينية رجالا و نساء ،هم أشخاص مؤثرون ، يجمعون بين العلم و المعرفة و بين الحكمة و التجربة ، و يمتلكون مهارات و قدرات في فن التخاطب و التواصل مع الناس عبر مختلف الوسائل ، علاوة على أن تمثلهم للقيم الدينية و الروحية و تمثيلهم للسلوك الديني و الروحي يبقى العامل الأبرز في الوصول إلى قلوب الناس وعقولهم و توجيههم إلى سبل كفيلة بضمان السلم و الأمن و السكينة و الأمان .
في ظل الأزمة الصحية العالمية كورونا ـ كوفيد 19 التي اجتاحت العالم ـ منذ أواخر سنة 2019 و إلى حد كتابة هذه الورقة ـ أصيب الناس في جميع القارات بالذهول و الحيرة و هم يرون أحباءهم و أقاربهم قد ألم بهم هذا الفيروس القاتل ، يتساقطون فرادى و جماعات مثل أوراق الخريف ، ويتابعون طيلة الوقت الجهود التي تبذلها حكوماتهم من أجل احتواء الوضع باتخاذ حزمة من الإجراءات الاحترازية و الطوارئ الصحية ...على أمل توصل المختبرات الطبية إلى علاج أو لقاح ... في هذا الوقت العصيب بالتحديد تحتاج شعوب العالم إلى دعم من نوع آخر ،قد لا يتمكن السياسيون و الأطباء و الاقتصاديون وغيرهم من الوفاء به ، هذا الدعم تتحمل مسؤوليته القيادات الدينية و الزعماء الروحيون من مختلف أديان وثقافات العالم ، لا سيما أن ملايين الجماهير تتأسى بهم عبر ربوع الأرض .
عندما يعم البلاء و ينتشر الوباء ، و يسيطر اليأس ، يكون الناس أحوج إلى من يوقد فتيل الإيمان في أفئدتهم ، و يحيي الأمل في حياتهم ... بل لعلهم يكونون في أمس الحاجة إلى من يحرك الوازع الديني و الجانب الروحي في أنفسهم بقصد الرفع من معنوياتهم و شحذ هممهم و عزائمهم لتجاوز الصعاب . و هذه العملية لا تتم إلا بتفعيل وظيفة الدين في المجتمع ، و بتحمل القيادات الدينية لهذه المسؤولية الكبرى ، إذ عليهم أن يدعموا السياسيين في تنزيل القرارات المصيرية عن طريق استثمار منظومة القيم الدينية و الروحية التي شكلت عبر تاريخ الإنسانية ، قاسما مشتركا بين بني الإنسان ، فالإنسان أينما كان ، يفرح و يسعد عندما تتوفر له أسباب السعادة ، و يشقى و يتألم عندما تلم به الأسقام و أسباب الشقاء .
نحن في سفينة واحدة و مصير الإنسانية واحد :
منذ الوهلة الأولى أقول إن أهم رسالة ينبغي على القيادات الدينية إيصالها إلى العالم في خضم جائحة كورونا ـ كوفيد 19 ، هي تلك التي جاءت بها الأديان و تبنتها الحكمة و الفلسفة ،لتذكرنا بأن مصدر الناس واحد و مصيرهم واحد ... يركبون السفينة ذاتها لتعبر بهم بحر الحياة .
الأرض التي نحيا فوقها تشبه سفينة العبور ، استقلها الجميع ليعيشوا عليها حياتهم . تختلف مرافق السفينة و تتفاوت طبقاتها ،و تتنوع معداتها وتجهيزاتها مثلما تتنوع تضاريس الأرض و خيراتها ... جميع الركاب على متنها يتوجهون في نفس الاتجاه و لنفس المصير ، يقطعون أشواطا و يمرون بمحطات قبل الوصول إلى المحطة الأخيرة التي تؤذن لا محالة بنهاية الرحلة .
طالما كان البحر هادئا و أمواجه منخفضة ...يكون جميع الركاب في سكينة و أمان ، حيث يقودالربان و طاقمه -كل بحسب درجته و صفته - السفينة في سلاسة ، و تتابع رحلتها متنقلة بين المرافئ و الموانئ ، بينما أخذت فئات الركاب مكانها وفق إمكانياتها الماديةو مستواها الاجتماعي ، فئة في الدرجة الأولى ، و أخرى في الدرجة الثانية و غيرها في الدرجةالثالثة و ما يليها ، و هكذا ... كل شيء يسير بنظام و انتظام ما دام الكل يلتزم بمكانه .
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن كما يقال ، فتهب عاصفة هوجاء تعصف بالسفينة و بمن فيها ، فيتحمل الربان و طاقمه مسؤولياته وفق ما ينص عليه قانون قيادة السفينة في حالة الطوارئ و العواصف ، ويحاول طاقمه المكلف بتوجيه الناس و تذكيرهم بالإجراءات الاحترازية في مثل هذه الأزمات ... من أجل السيطرة على الوضع ، لكن ذلك قد لا يكفي لوحده ، إذ الركاب – في مثل هذه الأوضاع غير العادية - يصابون بالهلع و الفزع لدرجة الصدمة ، لا يستمعون إلى نداءات الطاقم و من ثم لا يستجيبون و لا يمتثلون لتعليمات الطوارئ ، فيؤدي ذلك إلى الفوضى و الازدحام و الاصطدام بين الركاب فتحل الكارثة العظمى جراء هذا الانفلات الخطير .
القيم الدينية … التضامن أولا و أخيرا :
نعم ، لا تنعدم بين الركاب فئة من الحكماء و العقلاء و ذوي الخبرة ، يوظفون الحكمة و التعقل و يمدون يد العون ، فيتدخلون في الوقت المناسب للأخذ بيد الركاب المصدومين من أجل تيسير تنفيذ تعليمات الربان و طاقمه ، يتوسلون بالإيمان و الإيثار و يزرعون الثقة في الركاب و يحثونهم على الانضباط و احترام التعليمات … وهذه المهمة الإنسانية السامية هي أليق بالقيادات الدينية و الزعماء الروحيين الذين طالما نادوا في شتى المحافل و المناسبات بالتحلي بالأخلاق و القيم الدينية النبيلة التي يسمو بها الإنسان ، و على رأسها قيم التضامن و التآزر بين الناس في المحن و الشدائد .
إن أقرب الناس للناس في مثل هذه الجائحة قياداتنا الدينية و زعماؤنا الروحيون الذين يسهمون في توعية ركاب السفينة و تعبئتهم من أجل نشر الروح الجماعية و تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة و إعطاء الأولوية للعناية بالمسنين و العاجزين و الأطفال و النساء و ذوي الاحتياجات الخاصة ، و تقديم المساعدات الضرورية لهم ، و بذلك نتجنب الفوضى و التهور حتى تسلم السفينة و ركابها من دمار العاصفة و نخرج منها بأقل الخسائر .
إن من أولويات القيادات الدينية و الزعماء الروحيين الآن هي أن يبادروا بتوعية الناس بواجبات المواطنة عبر كل الوسائط و الوسائل المتاحة الذي تقتضي احترام قوانين الطوارئ الصحية ، و تحفيزهم على التفكير الجماعي و التشاركي و اجتناب الفردانية و الأنانية بتجنب التسابق على الاقتناء المفرط للمواد الاستهلاكية ، و حثهم على التضامن و التكافل الاجتماعي و تشجيع الميسورين على أن يقدموا يد المساعدة و العون للمعسرين و المحتاجين ، و تحذيرهم من ترويج الأكاذيب و الشائعات التي تهدف لترهيب الناس و إخافتهم و زرع الشك في أنفسهم ، الأمر الذي قد يؤدي إلى فقدان الثقة بين الحكومات ومواطنيها فيحدث الانفلات الأمني و تهيمن الفوضى العارمة ، ثم يعم النهب و السرقة و الاعتداء على الممتلكات العامة و الخاصة ...
إن استثمار البعد الديني و الروحي في تحفيز الناس هو ضروري في تعزيز قيم التعاون و التضامن من أجل تجاوز العواصف و الطوارئ ، و سيُصبِح استحضار هذه القيم الدينية العظيمة مطلبا ملحا أكثر بعد هدوء العاصفة، إذ ستترك ـ بدون أدنى شك ـ صدمة و ذهولا في جميع الركاب من شدة ما أصابهم من إنهاك و تعب و جهد جراء إصرارهم على إنقاذ ما يمكن إنقاذه . هذا الوضع الجديد ( بعد انتهاء هذه الأزمة الصحية العالمية التي أرجو أن يكون في القريب العاجل ) سيتطلب جهودا جمة من سائر المسؤولين بالتضافر بين كل مكونات المجتمعات محليا و دوليا ، خاصة أن تداعيات جائحة كورونا ـ كوفيد 19 ستنتج آثار اجلية سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا و نفسيا و فكريا و تربويا ، قد تغير فلسفتنا في الحياة مستقبلا ، لذلك فالوضع المستجد يقتضي من القيادات الدينية و الزعماء الروحيين أن يبادروا بمشاريع تبث من جديد روح العزيمة في مجتمعاتهم و تشجيعهم على الإقبال على الحياة و المضي قدما بتدبير الإمكانات المتاحة لديهم من أجل إعادة النظر و الاعتبار من هذه الجائحة الوبائية العالمية و العمل على صياغة رؤية مستقبلية تتماشى مع الواقع الجديد تحدد فيه أولويات الإنسانية جمعاء في مجال الصحة و التعليم و الاقتصاد و أنماط العيش المختلفة ، لضمان حق الناس في الحياة و العيش بكرامة ،دون اعتبار للحواجز العالية المرسومة بالحدود السياسية و العرقية ، و الهويات الدينية و الاثنية و الثقافية و الفروق الجندرية .
القيادات الدينية دعامات أساسية:
إن القيادات الدينية و الزعماء الروحيين يحظون بمكانة خاصة من حيث التأثير في الجماهير ، داخل جماعتهم الدينية أو الروحية التي ينتمون إليها ، و كذلك داخل مجتمعاتهم و أمام الرأي العام ، فهم يمتلكون مقومات التأثير و التوعية والتكوين و التربية و التعليم ، هم معلمون و مدرسون و باحثون و أكاديميون و خبراء ... يدعمون حوار التوافقات و التوازنات بين المختلفين من أجل بناء السلام ، و يسهمون بنواياهم الحسنة و مبادراتهم النبيلة في التخفيف من حدة التوترات القائمة في بعض بؤر النزاع ... أيعقل أن يغيبوا عن الساحة في الأزمات العالمية الكبرى ؟ أمن المنطقي أن يتخلفوا عن الموعد و جائحة كورونا ـ كوفيد 19 تفتك بالإنسان في جميع أقطار العالم ؟
إذا كانت الحكومات تبذل قصارى جهدها في تدبير هذه الأزمة الصحية باتخاذ قرارات سياسية و اقتصادية و اجتماعية لحماية المواطنين... تسابق الزمن من أجل تجنيب شعوبها من كارثة مدمرة ... ألا تحتاج هذه الحكومات إلى من يدعم جهودها في تنزيل القرارات و الإجراءات الاحترازية و الطوارئ الصحية المتخذة حتى يتخطى العالم هذه المعاناة الإنسانية؟
لم يكن الدين في يوم من الأيام مجرد تأمل شخصي أو أمر تعبدي فحسب ، بل كان دائما و أبدا يكتسي أهمية خاصة تتجلى في وظيفته النفسية و الأخلاقية لدعم المجتمعات ، و من هنا نخلص إلى أن القيادات الدينية و الزعماء الروحيين في شتى بقاع العالم ،مطالبون بتوظيف خبراتهم الغنية و معارفهم المتنوعة في استثمار القيم الدينية التي تخدم الإنسان ،و العمل على توعية الرأي العام و تنويره بضرورة التضامن و التآزر بين كل القوى و الفئات محليا و دوليا لمواجهة هذه الجائحة التي لا تعترف بوجود حدود تمنعها من الدخول إلى بلد دون آخر ، و لا تقر بتميز هويات على أخرى فتؤذي طرفا و تخلي سبيل طرف آخر ، و لا بتفوق ثقافات على مثيلاتها فتنجو وحدها بمنأى عن الأخرى ، إذ لم يعد عالم اليوم في مواجهة هذا الوباء الخطير الذي ينتشر بسرعة كانتشار النار في الهشيم ، ينقسم إلى عالم متقدم ، و عالم سائر في النمو و عالم ثالث ... فالكل سواء في المعاناة و الألم.
إن القيادة - كيفما كان نوعها سياسية أو اقتصادية ...– تتحمل مسؤولية كبيرة أمام المجتمع ، و القيادة الدينية - بوجه خاص - تحمل على عاتقها مسؤولية كبرى في تقديم الدعم إلى جانب قيادات أخرى للشعوب ، إذ تعد القيادات الدينية والزعماء الروحيين دعامات أساسية لمجتمعاتهم في محطات عديدة ، يخاطبون الناس على المنابر المختلفة : في أماكن العبادات و الحلقات الدراسية و المعاهد و الجامعات و يتحدثون باسم أممهم في المؤتمرات و القنوات الإعلامية ، و يؤطرونهم في الورشات التعليمية ، و يتواصلون معهم في الأوساط العامة و في كل مكان ... بل إنهم قدوة لغيرهم ما داموا يقومون بالوظيفة الجليلة التي تنتظرها الجماهير من أتباع أديان و ثقافات العالم من قياداتهم الدينية و زعمائهم الروحيين .