خلال بث مباشر عبر فيسبوك للاحتفالات باليوم الدولي لإحياء ذكرى ضحايا الهولوكوست، قام الحاخام لودي فان دي كامب بتشغيل ميكروفونه وخاطب جمهوره العالمي بعبارات شديدة اللهجة، قائلاً:
"إنني أتحدث اليوم نيابة عن طفلين لم أعرفهما قط؛ أتحدث عن الأخوين الذين لم يفارقا ذاكرتي البتة. لقد قُتلوا في أوشفيتز مع عائلة أخرى لم تعد أبدًا إلى الأراضي الهولندية بعد نُقلوا بعيدًا إلى معسكرات الاعتقال".
هناك لحظات في التاريخ تربط البشر على الرغم من تعدد دياناتهم وثقافاتهم مثل احتفالاتنا بما أحرزته الإنسانية من إنجازات باهرة وخيرات زاخرة فاقت تبعات الشرور الحاصلة.
فعلى الرغم من فاجعة المحرقة وما تبعها من مأساة وخسارة، وجد اليهود الأوروبيون حليفًا مخلصًا - وهم المجتمعات المسلمة التي تدرك جميعًا كيف يمكن لخطاب الكراهية أن يطلق العنان للإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.
بالنسبة للأستاذ نرمين فزلاغيتش -رئيس الجماعة الإسلامية للبوشناق في إيطاليا (CIBI)- فقد فَرَّ من الصراعات الوحشية على الصعيدين العرقي والديني في البوسنة والهرسك مع أسرته في التسعينيات. وفي عام 1995، فجع بتقارير تتداولها وسائل الإعلام عن مذبحة راح ضحيتها 8000 رجل وصبي من البوسنيين المسلمين في سريبرينيتشا.
وبالشراكة مع منظمة المجتمع الإسلامي الإيطالي (كوريس)، دشن فازلاغيتش مع الجماعة الإسلامية للبوشناق في إيطاليا فعاليات حدث خاص عبر الإنترنت يوم الأحد الماضي، ودعا إليه قادة يهود ومسلمين بارزين للوقوف معًا احتفالاً باليوم الدولي لإحياء ذكرى ضحايا الهولوكوست.
متحدثًا من تجربته الخاصة، حذر فازلاغيتش المشاركين من أن "الإبادة الجماعية لا تقتصر على سلسلة طويلة الأمد من الصراعات، بل قد تكون تحدث سريعًا".
"وعلينا أن نتوخى الحذر دائمًا وأبدًا مع زيادة الوعي والجهود اليومية للحيلولة دون حدوثها مرة أخرى".
وأضاف الإمام يحيى بالافيتشيني -مدير الحدث ورئيس منظمة المجتمع الإسلامي الإيطالي (كوريس)- أن فعاليات هذا الحدث ليست قاصرة على مجرد إحياء لهذه الذكرى، "ولكن أيضًا للحيولة دون اندلاع أي من تلك الفظائع في المستقبل".
ربما لم يكن هذا الشعور أكثر إلحاحًا مما كان عليه في خضم تفشى الجائحة العالمية التي -وفقًا للأمم المتحدة- تميزت بتصاعد معاداة السامية وكراهية الإسلام، فضلاً عن الدعوات إلى العنف ضد اللاجئين والمهاجرين.
في وقت سابق من هذا الشهر، أطلق مركز الحوار العالمي (كايسيد) حملة عبر الإنترنت لزيادة الوعي بهذا التصعيد لخطاب الكراهية الذي يأتي بعد 76 عامًا فقط من تحرير أوشفيتز بيركيناو.
وعلى هذا الأساس، أشار معالي الأستاذ فيصل بن معمر -الأمين العام لمركز الحوار العالمي الذي ألقى الكلمة الافتتاحية- إلى ضرورة أن نقف وقفة صريحة أمام أنفسنا ونتساءل: هل مؤسساتنا ومجتمعاتنا وأحيائنا قوية بما يكفي لتحمل درء هذا التصعيد المتزايد لخطاب الكراهية؟ هل بإمكاننا الوفاء بوعدنا بالشعار الذي طالما أطلقناه:"لن يحدث مجددًا"؟
على مدار أكثر من سبعة عقود، كانت عبارة وشعار "لن يحدث مجددًا" هي الصرخة الحاشدة لمؤيدي يوم ذكرى الهولوكوست. ومع ذلك، كشف استطلاع عام 2014 الذي أجرته رابطة مكافحة التشهير (ADL) أن البشر قد ينتكسوا ويكرروا فظائع ما قد سلف. فما يقرب من 54% من سكان العالم الحاليين لم يسمعوا بالهولوكوست وثلثهم فقط يعتقدون أن الروايات التاريخية عنها دقيقة.
وبسبب الجهل السائد بفظائع المحرقة، شددت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ومختلف المنظمات الدولية على الحاجة إلى برامج تعليمية لترسيخ ذاكرة معسكرات الموت ومنع حدوث الإبادة الجماعية مرة أخرى.
وفي عام 2005، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا أعلن يوم 27 يناير - الذكرى السنوية لتحرير معسكر اعتقال أوشفيتز - بيركيناو - اليوم الدولي لإحياء ذكرى ضحايا الهولوكوست.
ويرى معالي الأمين العام فيصل بن معمر أن هذه هي أولى الخطوات التي يجب اتخاذها لضمان عدم تكرار الجرائم الفظيعة، وقال "لا يمكننا أن نتوقف ولا أن نستريح حتى نزيح عن الكل ضراوة الشعور بالخوف أو الخسارة أو الحرمان من الحقوق بسبب هويته أو معتقداته الدينية". وأضاف:
"الأمر الذي حدث لأقلية ما بالأمس يمكن أن يحدث لأي أقلية أخرى في الغد".
وفي عام 2016، دعم مركز الحوار العالمي تشكيل المجلس الإسلامي اليهودي الذي يتعاون في قضايا مثل الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية وكراهية الأجانب في أوروبا وحول الاهتمامات المشتركة للمجتمعات اليهودية والمسلمة.
وقد أكد كبير الحاخامات بنحاس غولدشميت -رئيس مؤتمر الحاخامات الأوروبيين والرئيس المشارك للمجلس الإسلامي اليهودي - في كلمته أمام المشاركين في فعاليات اليوم الدولي لإحياء ذكرى ضحايا الهولوكوست إنه من ضمن المخاوف القائمة حتى الآن غياب ما يضمن عدم تكرار أعمال الكراهية الجسيمة.
وأشار الحاخام فان دي كامب -وهو أيضًا عضو في المجلس الإسلامي اليهودي- إلى شراكات فعالة في هولندا بين المسلمين واليهود الذين يعملون مع المدارس والهيئات الحكومية والمؤسسات الدينية لإخماد نيران الكراهية والتمييز. وقال إن المجتمعات الهولندية المسلمة واليهودية "تنمو معًا خطوة بخطوة كل يوم في وحدة وبناء مجتمع مشترك".
ويرى الدكتور نجاد جرابوس -المفتي الأكبر لجمهورية سلوفينيا والرئيس المشارك للمجلس الإسلامي اليهودي أن جزء من عملية النمو معًا يتجسد في محاولة فهم ما حدث في الماضي وما يحدث الآن لأتباع الأديان الأخرى.
وقال: "الممثلون الدينيون بحاجة إلى تجاوز [قرار الأمم المتحدة] ومعرفة شعور زملائنا الأطراف من أفراد المجتمعات تجاه هذه الفظائع المروعة".
وفي السنوات الأخيرة، حاول القادة المسلمون الامتثال بهذا الأمر عندما أنصتوا إلى نظرائهم اليهود وعبروا عن تضامنهم معهم. وفي عام 2020، انضم الدكتور محمد العيسى -الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي ووزير العدل السعودي السابق- إلى قادة يهود رفيعي المستوى في زيارة إلى معسكر أوشفيتز تكريما للذكرى الخامسة والسبعين لتحريره.
ويعتقد الحاخام ديفيد روزن -المدير الدولي للشؤون بين الأديان في اللجنة اليهودية الأمريكية وعضو مجلس إدارة مركز الحوار العالمي- أن أعمال التضامن والمعاناة المشتركة ضرورية "لتعزيز الصداقة والأخوة والسلام".
وأضاف: "لكي نعتني ببعضنا البعض حق العناية، فنحن بحاجة إلى معرفة مصادر آلام بعضنا البعض".
وخلال استضافة حدث إحياء ذكرى ضحايا الهولوكوست، قال روزن: "أظهر إخواننا وأخواتنا المسلمون هذه المشاعر النبيلة". وأضاف: "وفي الواقع، لست متأكدًا مما إذا كانت المنظمات الإسلامية تتذكر فظائع هذه المحرقة". ولهذا السبب وحده، أكد روزن على تاريخية هذا الحدث.