في ثاني أيام منتدى كايسيد للحوار العالمي، خاض المشاركون نقاشات معمّقة حول القضايا الملحة المتعلقة ببناء جسور السلام وإقامة مدن شاملة للجميع.
تحديات التوسع الحضري
أدرك المشاركون أنّ العالم يشهد أكبر موجة توسع حضري في تاريخه، حيث يُقيم أكثر من نصف سكانه الآن في المدن، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 5 مليارات نسمة بحلول عام 2030.
وفي هذا الصدد، أكدت تيريزا ألبانو، مديرة البرامج في مركز الحوار العالمي – كايسيد، أن التوسع الحضري، على الرغم من إمكانياته في فتح آفاق جديدة للرفاهية، يُشكل تحدياً هامًا، حيث تُعاني المدن من معدلات مرتفعة من الفقر .وأضافت أنّ "المدن الشاملة تتميّز بسياساتها وبرامجها التي تُقدّم دعمًا كبيرًا للسكان المحرومين من الخدمات الأساسية."
سد الفجوة بين الجنسين
أكدت مونيكا فيرو، مديرة مكتب تمثيل صندوق الأمم المتحدة للسكان في لندن، على ضرورة معالجة حرمان النساء من الخدمات الأساسية، مشيرة إلى أن التكافؤ بين الجنسين قد يستغرق 200 عامًا وفقًا للدراسات. وأوضحت أن الكثافة السكانية المتزايدة مع استمرار عدم المساواة تُشكل تحديات كبيرة للحكومات الوطنية والمحلية في توفير الخدمات بشكل فعّال.
وشددت فيرو على أهمية دعم الاستقلال الاقتصادي للمرأة ورفاهها من خلال توفير خدمات رعاية الأطفال والرعاية الصحية والتعليم والإسكان بأسعار معقولة. ودعت إلى سنّ سياسات تُعزّز مشاركة المرأة في سوق العمل، مؤكدة أن "رعاية الأطفال بأسعار معقولة تُمثل عائقًا رئيسيًا أمام هذا التقدم".
وأثنت فيرو على جهود مدن مثل فيينا وبرشلونة وغلاسكو في مجال التخطيط الحضري الشامل، مُشيرة إلى أهمية بناء مساحات عامة آمنة، وضمان إضاءة جيدة للشوارع، وتوفير خيارات نقل آمنة. وشددت على ضرورة استخدام بيانات السكان لإثراء السياسات وتطوير مدن تلبي احتياجات جميع سكانها بشكل فعّال.
إشراك الفقراء والفئات الضعيفة
شدد المشاركون في المنتدى على أن التخطيط الحضري قد تجاهل لفترات طويلة احتياجات فئات معينة، ولم يقتصر ذلك على النساء فقط، بل شمل أيضًا الفقراء والفئات الضعيفة. وأكّدت كيزيفينو آرام، عضو مجلس إدارة كايسيد سابقًا، على أن العالم يمرّ بمرحلة حرجة من عدم المساواة، مشيرةً إلى أنّ التغيرات المناخية، وتحديدًا موجة الحر الأخيرة في الهند، تُجسّد مظاهر هذا التفاوت بشكل صارخ.
طالبت آرام بإعادة هيكلة الخدمات مع التركيز على دعم القيم الدينية الأساسية، لا سيما تلك التي تُكرّم الكرامة الإنسانية. ودعت إلى تبني نهج جديد في "التصميم الإنشائي" يضمن تخطيط المدن بما يُحقق بيئة معيشية أكثر عدلاً وإنصافًا لجميع السكان.
وفي السياق ذاته، ندّد الأب لوران باسانيزي، من دائرة الحوار بين الأديان في الفاتيكان، بظاهرة تهميش الفقراء خلال الفعاليات الكبرى، مثل الألعاب الأولمبية، حيث يتمّ إبعادهم عن الأنظار أو نقلهم إلى أطراف المدن. وتساءل باسانيزي بمرارة: "أي نوع من الحضارة نسعى إلى بنائه إذا اخترنا مشاريع تستبعد الفقراء؟".
وشددّ باسانيزي على ضرورة اعتبار إدماج الفقراء معيارًا أساسيًا لتقييم مشاريع التخطيط الحضري، محذرًا من أنّ تجاهل احتياجات الفقراء والمجتمعات المعزولة سيكون له عواقب وخيمة على الجميع، بدءًا من الأفراد وصولًا إلى المدن والمجتمعات ككل.
وأوضحت كاثرين مارشال، نائبة رئيسة جمعية منتدى القيم الدينية لمجموعة العشرين، أنّ التنوع في المدن، على الرغم من فوائده الجمة، قد يُشكل تحديًا كبيرًا لصناع السياسات في إدارته. وأشارت إلى أنّ "الناس قد لا يُدركون أنّ تنوع مدينتهم يُفيد الجميع في الحقيقة". ويزداد هذا التصور سوءًا مع تدفق اللاجئين والمهاجرين، ممّا أثار مخاوف وتوترات على مستوى العالم، على الرغم من أنّ الدراسات تُظهر أنّ معظم اللاجئين هم نازحون داخليًا في بلدانهم. وأضافت مارشال: "تشير الاستطلاعات في الولايات المتحدة إلى أنّ الأشخاص الذين يُعربون عن أكبر قدر من القلق بشأن المهاجرين واللاجئين هم من يعيشون في أماكن لا يوجد بها مهاجرون تقريبًا". وترى مارشال أنّ الحل يكمن في تعزيز التوعية.
تأثير الحوار الشعبي في حفظ السلام
أبرزت جلسات النقاش التي تناولت حفظ السلام الصراعات الدولية الملحة، لا سيما تلك التي تدور في منطقة الساحل، وفي دول آسيا والمحيط الهادئ، وفي أوكرانيا وغزة.
وأشار سيادة المطران دانييل أوكو، عضو منتدى الحوار بين الأديان من أجل السلام الذي يدعمه مركز الحوار العالمي – كايسيد في نيجيريا، إلى أن بناء السلام في بلاده يحتاج إلى جهد دؤوب ومثابرة. فقد عانت نيجيريا – منذ استقلاها- من صراعات دينية وعرقية دامية.
وقال المطران أوكو: "استغلّ تجار الأزمات تنوع نيجيريا، الذي ينبغي أن يكون مصدر قوتنا وفخرنا، لتحقيق مصالحهم الشخصية وتعزيز نفوذهم. وشدد على ضرورة تعاون القيادات الدينية الفعّال مع القادة العسكريين والمسؤولين الحكوميين. فقد أدركت القيادة العسكرية العليا أن نهج استخدام القوة في مواجهة العنف لن يحل المشكلة، لذا بات التعاون مع القيادات الدينية ضروريًا.
لقد أثبتت العلاقات والمناقشات غير الرسمية أنها بنفس أهمية الحوارات الرسمية في جهود بناء السلام. وأشار المطران أوكو إلى أن القيادات الدينية تضطلع بدور هام في نشر الوعي حول جهود بناء السلام التي تبذلها المؤسسة العسكرية بين مختلف فئات المجتمع، وتسهيل حوار بناء بين المؤسسة العسكرية والمجتمع. وأكد أننا نحن، القيادات الدينية، نتمتع بثقة واحترام مختلف فئات المجتمع على كافة المستويات.
ومن هنا، برزت الأهمية الكبيرة للحوار بين أتباع الأديان في نيجيريا، نظرًا للتنوع الديني والثقافي الثري لهذا البلد الذي يضم 271 مجموعة عرقية وأكثر من 500 لغة. وأشار المطران أوكو إلى أن منتدى الحوار بين أتباع الأديان في نيجيريا أنشأ دليلًا ومدونة قواعد سلوك شاملة تراعي تعاليم جميع الأديان تهدف إلى المساعدة في عملية السلام.
وأكدت أليسا وحيد، مديرة شبكة غوسدوريان في إندونيسيا، أن إندونيسيا تبذل جهودًا حثيثة لتعزيز الانسجام الديني. ومع ذلك، لوحظ تصاعد في ظاهرة التعصب والتمييز منذ عام 2005، مما أدى إلى تفاقم التوتر بين مختلف مكونات المجتمع. ووضحت وحيد أنّ النزعات الإقصائية والتفرد الديني، خاصةً من قبل بعض أفراد الأغلبية، تُشعل فتيل التعصب والتمييز.
وأشارت الأستاذة وحيد إلى أن الجهات الرسمية في إندونيسيا تعطي الأولوية غالبًا لمسائل الحفاظ على التناغم الاجتماعي ومنع الصراعات، ممّا قد يُؤدّي إلى إهمال الوفاء بالالتزامات الدستورية بضمان حرية الدين والمعتقد. ونتيجة لذلك، شهدت البلاد ازديادًا ملحوظًا في نشاط الجماعات الإسلامية المتشددة، وتفاقمًا لحوادث التمييز الديني والاعتداءات على أماكن العبادة. وإن التعداد السكاني الكبير لإندونيسيا واتساع مساحتها الجغرافية يفاقم هذه التحديات.
وأكدت الأستاذة وحيد فعالية الاستراتيجية الشاملة المعتمدة على نهج التفكير النظمي في تعزيز الحرية الدينية في إندونيسيا. ففي عام 2019، أطلقت وزارة الشؤون الدينية استراتيجية لتعزيز الاعتدال الديني، شملت تدريب عناصر الشرطة ومنفذي القانون، وإصلاحات في المناهج الدراسية في التعليم العالي. وقد حددت هذه الاستراتيجية بوضوح نقاطًا حاسمة لمعالجة التحديات المتعلقة بالحرية الدينية بشكل فعال. وتناولت الأستاذة وحيد في دراستها لعام 2023 نتائج استطلاع أظهر رضا عامًا كبيرًا عن أداء الحكومة في تعزيز الاحترام والتسامح والتناغم الديني، مشيرةً إلى انخفاض ملحوظ في حوادث التعصب وخطاب الكراهية.
وفي ختام حديثها، شددت الأستاذة وحيد على ضرورة التركيز على نوع التدين الذي نريد تعزيزه. إذ إن التدين الحق يجب أن يقوم على تعزيز كرامة الإنسان وقيم العدل والمساواة.