في وقت سابق من هذا العام، نظمت منظمة دولية لحقوق الإنسان تعمل على منع ارتكاب الجرائم الجماعية الفظيعة في بعضٍ من أكثر دول العالم هشاشة وضعفًا ورشة عمل تدريبية فريدة مدتها يومان في جنوب دارفور بالسودان باستخدام الأغاني التقليدية بصفتها أحد مسارات السلام والمصالحة.
وكان من بين من حضروا تلك الدورة التدريبية التي عقدت في يناير بدعم من مركز الحوار العالمي "كايسيد" عبر مشروعه #مشاريع حوارية ونظمتها منظمة حقوق من أجل السلام، وهي مؤسسة خيرية بريطانية، 22 امرأةً من الحكَّامات من 18 موقعًا في جميع أنحاء السودان. والحكَّامات هنَّ مغنيات تقليديات تستخدم أغانيهنَّ الموضوعات والأشعار الحربية التي يراها بعضهم أنها تشجع العنف المجتمعي بين القبائل المتمركزة في جنوب دارفور ومناطق شمال غرب كردفان، وتدور أغانيهنَّ عادة حول الهتافات الحربية وتتناول موضوعات مثل الشرف والشجاعة والجبن وغالبًا ما يُنظر إليها على أنها تشجع الصراع.
وفي بلد تتمتع فيه النساء بنفوذ كبير داخل مجتمعاتهنَّ المحلية، استهدفت ورشة العمل تشجيع الحكَّامات على تضمين الأغاني رسائلَ سلامٍ بدلًا من التحريض على العنف وسعت في الوقت نفسه إلى تنمية ثقافة التسامح والحوار. وفي اليوم الثاني من الورشة، أصدر المشاركون أغنيتين تدعوان إلى السلام والتعايش وأكدوا اتفاقهم على أنه يمكن للحكَّامات والقيادات المحلية تعبئة مجتمعاتها المحلية للإسهام في بناء السلام ومنع خطاب الكراهية.
وكانت نهلة يوسف المديرة التنفيذية لمنظمة المستقبل، وهي منظمة سودانية شريكة لمنظمة حقوق من أجل السلام، شخصية رئيسة في التخطيط لورشة العمل تلك. ووصفت تأثير أغاني الحرب التي غنتها الحكَّامات قائلة: "قد تؤدي الأغاني كهذه إلى خلق الكراهية بين المجتمعات المحلية أو الأفراد، أو حتى بين أفراد الأسرة نفسِها. ومرة أخرى، فإنها قد تدفع الناس إلى هيجان جامح يؤدي في النهاية إلى نشوب الصراعات".
وقالت نهلة أيضًا إن المغنيات شُجعنَ على التفكير في الدور الذي أسهمت به أغانيهنَّ في الصراعات الدائرة بالمنطقة، وأضافت: "لقد عُرض سؤال مهم للمناقشة بطريقة أكثر شفافية: من هنَّ؟ وماذا يُردن؟ وهل ما يقدمنه مفيد للمجتمع ؟ وهل هناك أغاني تؤجج الصراع؟".
لقد شهد السودان بعضًا من أسوأ أعمال العنف العرقي في أي بلد من بلدان شرق إفريقيا في السنوات العشرين الماضية. وفي وقت سابق من هذا العام، بدأت الحكومة الانتقالية في السودان والمجموعة المتمردة الرئيسة، الحركة الشعبية لتحرير السودان- قطاع الشمال (SPLM-N)، جولة جديدة من محادثات السلام الرامية إلى إنهاء الصراع المستمر منذ عقود.
وبدأ الصراع في السودان أول مرة في عام 2003 عندما حمل السلاحَ المتمردون الذي جلُّهم من غير العرب، وهم الذين طالما اتهموا الحكومة المركزية التي يهيمن عليها العرب في العاصمة الخرطوم بالتهميش السياسي والاقتصادي، ثم أدت الأعمال الانتقامية اللاحقة التي قامت بها ميليشيات "الجنجويد" المدعومة من الحكومة آنذاك إلى اشتداد حدة الصراع. وبين عامي 2003 و2008، أودى القتال بحياة أكثر من 300.000 إنسان وشرَّد الملايين.
ومع أن الاقتتال في السنوات القليلة الماضية خفَّت حدته، ما تزال تندلع اشتباكات دورية. وفي مايو الماضي، أعلنت الحكومة حالة الطوارئ بعد مقتل ما لا يقل عن 130 شخصًا في ولاية البحر الأحمر الساحلية. واستجابة لذلك، علَّقت الأمم المتحدة جميع الأنشطة الإنسانية في مدينة الجنينة، ممَّا أثر في ما يزيد على 700.000 شخص. ووفقًا للأمم المتحدة، فإن قرابة 237.000 إنسان قد شُردوا في الفترة ما بين يناير وأبريل، أي ما يعادل نحوًا من خمسة أضعاف عدد المشرَّدين في العام السابق بأكمله.
وبيَّن تقرير صدر حديثًا عن منظمة حقوق من أجل السلام بعض التحديات التي تواجه الحكومة الانتقالية السودانية، التي تكوَّنت بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير في انقلاب عام 2019.
ويرى التقرير أن حالات خطاب الكراهية والتحريض على العنف غالبًا ما تكون مسؤولة مسؤولية فورية عن الصدامات بين المجموعات العرقية، كما أن من أعد التقرير يفترض أن مجموعات المجتمع المدني كثيرًا ما تخلق جوًّا من الصمت بشأن خطاب الكراهية وأن عدم تدخل الحكومة أفضى إلى انعدام الأمن المزمن وتصاعد العنف. وقد قدمت منظمة حقوق من أجل السلام أيضًا عددًا من التوصيات، ومنها الحاجة إلى سن قانون وطني لمناهضة خطاب الكراهية وإصدار قانون شامل لمكافحة التمييز.
ويمكن لخطاب الكراهية في السودان أن يتخذ صورًا عديدة، ومنها مقولة "نظفوا الدولة من أي أكياس بلاستيكية سوداء" التي تشير إلى السكان ذوي الأصل "الإفريقي الأسود" من جبال النوبة ودارفور وجنوب السودان. وهناك مثل شائع آخر لخطاب الكراهية يصف قبائل بني عامر، وهي في الغالب من المسلمين، بأنهم "سرطان يجب استئصاله".
وقالت ماريانا جويتز، مديرة منظمة حقوق من أجل السلام التي أنشئت في عام 2018، إن التدريب على مكافحة خطاب الكراهية تطرَّق إلى بعض القضايا المهمة. وأضافت: "إذ بدأنا بالتدريب على مكافحة خطاب الكراهية والتحريض على العنف والإبادة الجماعية، فإننا في الوقت نفسه استخدمنا ذلك فرصةً لعقد جلسة يمكن فيها لهؤلاء الناشطين تزويدنا بأمثلة لأنواع خطاب الكراهية الذي يواجهونه في مجتمعاتهم المحلية، ولقد أجرينا ذلك بوصفه تدريبًا على الإنترنت على مدار عدة أيام وانضم إلينا أشخاص من العديد من أنحاء السودان المختلفة".
وقالت نجلاء الخليفة، المستشارة القانونية لمنظمة حقوق من أجل السلام في لندن التي تعمل على القضايا المتعلقة بخطاب الكراهية: "إن النساء في دارفور يشاركن في القتال وهنَّ أيضًا يتمتعن بنفوذ كبير، لأن الحكَّامات يحظين باحترام كبير داخل مجتمعاتهنَّ وكل كلمة يقلنها يتبعها الناس دونما تفكير. وعليه، فقد اخترنا التركيز والبدء من هناك نظرًا إلى أن هؤلاء النساء ينبغي أن يكنَّ سفيرات سلام".
وقالت نهلة يوسف إن ورشة العمل قد أبرزت الدور الذي يمكن أن تضطلع به المرأة في بناء السلام في دول مثل السودان، وختمت اللقاء بقولها: "في نهاية الورشة، أكد المتدربون أن الفن نشاط مهم في الحياة وله تأثير كبير في المجتمع. ولقد أقرُّوا أيضًا بأن بعضهم يستخدم الفن أحيانًا لتعزيز الحماية ونبذ الأغاني التي تؤجج الصراع والكراهية، وذلك بما يتفق مع رغبتهم في التخلي عن هذه الأغاني التي تحرض على العنف وفي أن يكونوا رسل سلام عن طيب خاطر لبناء سلام يحركه المجتمع".
ويذكر أنه إلى جانب دعم تدريب الحكَّامات، فقد أصدر مركز الحوار العالمي بالتعاون مع منصة الحوار والتعاون بين القيادات والمؤسسات الدينية المتنوعة في العالم العربي (IPDC) مشروع "هي للحوار" لتدريب نساء من خمسة بلدان عربية على الحوار وبناء السلام.