أُطلقت منصة الحوار والتعاون بين القيادات والمؤسسات الدينية المتنوعة في العالم العربي (IPDC) رسميًّا قبل ثلاثة أعوام، في شهر فبراير من عام 2018 في أثناء انعقاد مؤتمر "تعزيز التعايش السلمي والمواطنة المشتركة"، للتركيز على الجهود الرامية إلى الحفاظ على ثقافة الحوار والتعايش والتماسك الاجتماعي وتيسيرها في أجزاء كثيرة من منطقة تعاني من الانقسامات والتشتت.
وقد جاء تأسيس المنصة استجابة لتوصيات إعلان فيينا لعام 2014، الذي أصدره بعض أبرز القيادات والمؤسسات الدينية في المنطقة وصانعي السياسات وممارسي الحوار وبعض الأفراد بغية إيجاد سبل لأتباع الأديان لتحقيق المصالحة والسلام عبر الحوار.
وبعد ثلاث سنوات من الإطلاق الرسمي للمنصة التي يدعمها مركز الحوار العالمي "كايسيد"، يمكن إبراز دورها وأهميتها في سياق تطورين إقليميين رئيسيين في ميدان الحوار بين أتباع الأديان؛ إذ من المقرر أن يبدأ البابا فرنسيس أول زيارة بابوية للعراق يوم الجمعة الموافق للخامس من مارس عام 2021 برحلة تستغرق أربعة أيام تشمل زيارات إلى بغداد والنجف وأربيل. وإن رحلة البابا البالغ من العمر 84 عامًا ليست مجرد تضامن مع المسيحيين القليل عددهم في البلاد والمنكوبين، بل إنها ستزيد من الجهود الرامية إلى تفعيل الحوار الديني مع المسلمين العراقيين أيضًا. وتأتي هذه الزيارة بعد تقدم مهم آخر في ميدان الحوار بين أتباع الأديان وجهود بناء السلام؛ إذ اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في الشهر الماضي بالإجماع قرارًا جديدًا يرمي إلى مكافحة الكراهية الطائفية وحماية الأماكن المقدسة بتشجيع التسامح مع مختلِف المعتقدات والممارسات الدينية. وكانت المملكة العربية السعودية وبالنيابة عن عدد من الدول الداعمة، ومنها مصر والمغرب والإمارات العربية المتحدة والعراق والكويت والبحرين وعمان والسودان وباكستان واليمن، هي من قدم القرار المعنون "تعزيز ثقافة السلام والتسامح لحماية المواقع الدينية".
وقال الدكتور محمد سماك، الأمين العام للجنة الوطنية للحوار الإسلامي المسيحي في لبنان وعضو مجلس إدارة مركز الحوار العالمي، إن انطلاقة المنصة جاءت في وقت حاسم للمنطقة العربية: "عندما قررنا في مركز الحوار العالمي إطلاق هذه المبادرة، كان المسلمون والمسيحيون في حاجة إلى مجموعة ثالثة تجمعهم معًا... وكانوا بحاجة إلى مبادرة تقوي الثقة المتبادلة... وكانوا بحاجة إلى جسر بينهما، وقد كان المركز ذلك الجسر المنشود".
وقد أُطلقت المنصة، وهي الأولى من نوعها في المنطقة، بتمثيل من 22 من أعلى القيادات الدينية من المؤسسات الإسلامية والمسيحية في جميع أنحاء المنطقة العربية، التي تعهدت بالعمل معًا للمساعدة على إعادة بناء مجتمعاتها المحلية وحمايتها من آثار خطاب الكراهية والخطاب المثير للانقسام والعنف والتمييز. كذلك تعهدت القيادات الدينية المؤسسة للمنصة بالتصدي المشترك لأصعب التحديات التي تواجهها مجتمعاتها المحلية، وذلك بتعزيز قيم المواطنة المشتركة والمساعدة على بناء الثقة بين مختلِف الطوائف الدينية والثقافية في المنطقة وفيما بينها هي أيضًا.
وفي غضون السنوات الثلاث التي انقضت منذ إطلاقها، أصبحت المنصة شريكًا قيمًا في أنشطة المركز في العالم العربي، وتشمل أنشطتها تدريب أعضاء من شتى المجتمعات الدينية على مكافحة خطاب الكراهية وتنفيذ مبادرات تمكن الشباب والنساء والعمل مع صانعي السياسات المحليين والوطنيين على تعزيز التماسك الاجتماعي والمساواة في الحقوق.
وقال معالي الأستاذ فيصل بن معمر، الأمين العام لمركز الحوار العالمي: "لقد جاء إنشاء منصة الحوار والتعاون بين القيادات والمؤسسات الدينية المتنوعة في العالم العربي لسد فجوة التعاون على الصعيد الإقليمي. وبفضل مبادرات المنصة في المنطقة العربية، شهدنا كيف أحدث العمل المشترك للمجتمعات الدينية تغييرًا في العقليات والأفكار. وبجانب ذلك، هنالك اتفاق على أن التحديات المشتركة تتطلب حلولًا مشتركة، تتجاوز الخطوط الدينية والعرقية، لإعادة بناء ما قد كُسر. إن تخفيف وطأة الأعباء عن منطقة ما لا يتم إلا بالتضامن والاتحاد، وهذا ما نفعله بالضبط؛ إذ نبني الثقة والمواطنة المشتركة اللتين تسهمان في التعافي وإعادة بناء التماسك الاجتماعي على المستوى الإقليمي".
وأضاف قائلًا: "من الأهمية بمكان أن تجمع المنصة بين بعض أهم القيادات المسيحية والإسلامية في المنطقة، وذلك للاضطلاع بدور محوري في الربط بين القيادات والمؤسسات الدينية وصانعي السياسات والخبراء في المنطقة العربية في محاولة لمكافحة التطرف الخطير والباعث على الانقسام والتفرقة".
وقال كبير مستشاري مركز الحوار العالمي محمد أبو نمر: "إن هذه المنصة تقدم مجموعة أساسية من الأدوات للقيادات الدينية والخبراء وصانعي السياسات الذين يشاركون في الحوار بين أتباع الأديان وبناء السلام في أنحاء المنطقة العربية كافَّة". وواصل قائلًا: "وكما أظهرت جائحة فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19"، فإن خطاب الكراهية والتعصب الديني يتزايدان عالميًّا وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. وعليه، فإن الذكرى السنوية الثالثة لإطلاق المنصة تسلط الضوء على الموارد العديدة والبرامج التدريبية التي نشرناها لدعم كل من يعمل على حل الصراعات وبناء السلام".
المهام الرئيسة للمنصة
تعمل المنصة بصفتها مظلة جامعة لعدد من برامج مركز الحوار العالمي الرئيسة في المنطقة العربية، ومنها:
تأسيس فريق المواطنة المشتركة للعراق الذي جمع قيادات 30 من مؤسسات القيم الدينية ومنظمات المجتمع المدني، التي تمثل تقريبًا كل المجموعات الدينية والعرقية في العراق. ويضم هذا الفريق، الذي أُنشئ في عام 2018، أعضاء من الطوائف السنية والشيعية والمسيحية واليزيدية والبهائية، وقد اجتمعت قياداته بداية في أربيل لمناقشة سبل بناء إطار شامل للمواطنة في العراق، ثم أنشأت المجموعة فريق المواطنة المشتركة على الصعيد الوطني للإشراف على تنفيذ المبادرات الرئيسة للمنصة في العراق.
وتدعم المنصة أيضًا تنفيذ برنامج كايسيد للزمالة الدولية في المنطقة العربية، الذي يضم مشاركين من بعض مؤسسات القيم الدينية الرائدة في المنطقة. وقد تخرج حاليًّا في البرنامج 130 زميلًا نفذوا 56 مبادرة في مجتمعاتهم المحلية لزيادة الوعي بدور الحوار في مكافحة خطاب الكراهية وتعزيز المواطنة المشتركة وتمكين المرأة، فضلًا عن تأكيد دوره المحوري في تحفيز التعاون بين القيادات الدينية وصانعي السياسات من أجل التغيير المستدام.
وقالت هبة صلاح زميلة المركز: "إن أحد الأهداف الرئيسة للحوار هو الوصول إلى السلام، وإن مشروعي يعَد بذرة للسلام". وأضافت: "إن كون مشروعي من بين مشروعات كثيرة تطلقها منصة الحوار والتعاون في العالم العربي هو ما يعطيه قيمة أكبر ويجعله مصدرًا للتشجيع على تنفيذ الخطوات المقررة. ثم إن أحد الأمور المهمة التي ينبغي ذكرها هنا هو أن تعزيز السلام يحتاج إلى جهود جماعية، وهذا ما تضيفه المنصة إلى مشروعي".
إلى جانب ذلك، فإن المنصة تضم تحت مظلتها مبادرة مركز الحوار العالمي وسائل التواصل الاجتماعي مساحة للحوار، وهي سلسلة تدريبية متنقلة بدأت في عام 2015. وإلى اليوم، نُظمت 12 ورشة عمل زودت المئات من القيادات الشابة في المنطقة العربية بالمهارات اللازمة لمكافحة خطاب الكراهية والتطرف على الإنترنت ودعت إلى الاندماج والاعتدال وبناء قاعدة للمجتمعات المحلية التي يدعم بعضُها بعضًا في أوقات الحاجة. وقد أطلق خريجو هذا البرنامج 20 حملة لإحداث تحول على وسائل التواصل الاجتماعي ونجحوا في إدارتها لتعزيز التنوع والتعاون على تحقيق التنمية المستدامة وحشد الجهود المحلية للاستجابة للأزمات، ومنها استجابات أتباع الأديان لمساعدة أشد المتضررين من جائحة "كوفيد-19" وفيضانات السودان وانفجار بيروت.
وتدعم المنصة كذلك مشروع "هي للحوار"، وهو مشروع تمكين يضم 27 امرأة من المملكة العربية السعودية وسوريا والعراق ولبنان ومصر في برنامج تدريبي مدته سنة واحدة يسعى المشاركون فيه إلى وضع معايير دولية للحوار بين أتباع الأديان ووضع معايير وطنية للمواطنة المشتركة ومكافحة خطاب الكراهية، فضلًا عن أنهم يدرسون استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وسيلةً لتعزيز التعايش السلمي ويتناولون موضوعات ذات صلة مثل تعميم مراعاة المنظور الجنساني في ميدان الحوار بين أتباع الأديان والسبل التي تتداخل بها الهُوية مع الدين والعرق والثقافة والقومية.
ثم إن المنصة تعُد الشبابَ شركاء أساسيين في السعي إلى التعايش السلمي في المنطقة وتدعم منتدى الشباب للحوار بين أتباع الأديان والثقافات في المنطقة العربية، وهو مساحة مفتوحة وآمنة للشباب من جميع الخلفيات الدينية والعرقية والثقافية للمشاركة في الحوار أُنشأت في شهر ديسمبر من عام 2019 لتحديد الأولويات الاستراتيجية للشباب في الحوار بين أتباع الأديان وترجمتها إلى توصيات للعمل.
وحديثًا، تشرف المنصة على تنفيذ مبادرات حوارية على الصعيدين الإقليمي والوطني بصفتها جزءًا من مشروع مركز الحوار العالمي "مشاريع حوارية". وحتى الآن، قدم المركز والمنصة الدعم لقيادات المشروع من أجل تنفيذ 27 دورة تدريبية وورشة عمل و24 جلسة حوارية و6 حملات توعوية. وعِلاوة على ذلك، يجري العمل على تطوير تطبيق للهاتف المحمول إلى جانب مبادرة فنية مشتركة بين أتباع الأديان. وإلى اليوم، بلغ عدد المستفيدين من هذه المبادرات 2833 شخصًا.
وقالت أنيتا شيريم، إحدى قيادات مشروع "مشاريع حوارية"، إن دور المنصة في مساعدتها على إنجاح مشروعها الخاص قد ثبت أنه لا يقدر بثمن. وأضافت: "من الضروري الخروج من إطار المجتمع المحلي لإيجاد الأفكار ومحاولة تغيير الناس والمجتمع إلى الأفضل. وزيادة على ذلك، فإن مركز الحوار العالمي يمد لنا يد العون عبر التحفيز المستمر والمتابعة اليومية المنتظمة. وعلى هذا، فإننا نأمُل في أن يتواصل تعاوننا ونصل إلى العالمية بعملنا مع منصة الحوار والتعاون في العالم العربي".
ويؤمن الأستاذ وسيم حداد، مدير برامج المنطقة العربية في مركز الحوار العالمي ومهندس فكرة المنصة، بأن "المنصة تمثل تضامنًا قويًّا بين المجتمعات الدينية في المنطقة، بصرف النظر عن الصعوبات التي عانت منها. وبفضل برامجها ونشاطاتها، تضع المنصة قاعدة للحوار الشامل والتعليم الديني وشبكات الاستجابة للأزمات والعديد من البرامج النوعية التي نأمل من خلالها أن نسهم عبر المنصة في بناء مستقبل أفضل يقوم على قيم دينية أصيلة مثل الإنسانية والأخوة والتعاون".