تَقِف اليَوم جمهورية أفريقيا الوسطى في مفترق طرقٍ لا تَعلَم بالضبط أيَّ طريق منها تسلك. فبَعد سنوات من حالة الاضطراب، يتوجه مواطنوها إلى صناديق الاقتراع يوم الأحد للتصويت في الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وعلى قدر التخَوف من شبح إراقة الدماء الذي يهدد النتيجة، فإن نفس القدر من الأهمية توليه البلاد للتصويت حتى ترسم مستقبل البلاد وتَتَضِحَ مَعالمهُ.
كان اتفاق السلام المُهم الذي وُقِّعَ عام 2019 بين الحكومة و 14 جماعة متمردة قَد عَزَّزَ الآمال في كِتابَة صَفحَة جديدة لتاريخ البلاد، رغم أنَّ أَمنَها لا يَزال غَير مُستَقر، وقَد زادَت حِدَّة الوَباء مِن تفاقم وَضعية الاضطراب هذه. كما تصاعدت الحساسيات بشكل حاد قبل الانتخابات، ويتمثل ذلك أساسًا في الاحتكاك بين المرشحين المتنافسين وتصعيد أعمال العنف مِن متمردين جدد وكذا الصراع بين القوى الدولية المتنافسة على النفوذ.
إن الجهود المبذولة لبناء سلام مستدام هي جزء لا يتجزأ من عمل مركز الحوار العالمي، حيث أنهُ يَسعَى، بالتنسيق مع مجموعة من الأطراف الدينية ونشطاء المجتمع المدني والجمعيات النسائية والصحفيين وصانعي القرار، لتعزيز التسامح والحوار بين أتباع الأديان في أعقاب حرب أهلية مدمرة.
لا يزال المركز ملتزمًا بأهدافهِ ومبادئهِ في هذا السياق، والتي تشمل أساسًا: دعم المنصات المحلية ومبادرات الحوار، إدارة ودَعم الحملات التي تستهدف الحَد مِن خطاب الكراهية، بناء شبكة من صحفيي البلاد للإبلاغ المسؤول عن النزاعات والاحتكاكات، مساعدة القيادات الدينية على تنفيذ أهَم جوانب اتفاق السلام في الجمهورية.
وتتعدد المجموعات المشتركة بين الأديان التي يدعمها كايسيد، ونخص بالذكر "منصة الحوار بين أتباع الأديان (PCRC) " التي أسستها مجموعة من القيادات الدينية وصناع السلام الأكثر نفوذاً في جمهورية إفريقيا الوسطى: الكاردينال ديودونيه نزابالاينجا والقس نيكولاس جريكويام جبانجو والإمام عمر كوبين لاياما الذي وافته المنية هذا العام.
وتدافع هذه المنصة، بالاعتماد على مكانتها الروحية الموثوقة، عن السلام وتسعى لإرسائهِ في حالة نشوب أعمال العنف. وقد أصدر قادتها في الأسابيع الأخيرة، التي شهدت تصاعد التوتر قبل الانتخابات، بيانات توعوية كثيرة لإخطار الرأي العام بالوضع الأمني الهش في البلاد وكذلك للدعوة إلى الهدوء وضبط النفس.
كما يدير المركز مبادرات متنوعة لمنع العنف، أهمها: تدريب القيادات الدينية ومختلَف قادة المجتمع على منع خطاب الكراهية والحَد من ترويج الشائعات، وهي أسباب رئيسية لإثارة الاضطرابات والتحريض على الاشتباكات. يشرف المركز أيضا على توعية المرشحين للانتخابات والناشطين السياسيين بأهمية استخدام خطاب لا يحرض على العنصرية أو الانقسام. ويستضيف المركز أيضا دورات تدريبية بشأن منع النزاعات، يستفيد منها القادة الشباب. كما يسعى المركز لتجسيد اجتماعات مع كبرى الشخصيات السياسية الحاكمة، ولا سيما رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، للدعوة إلى التصالح والسلام. كما دعا المركز، في مناطق أخرى، قادة الميليشيات على نبذ العنف، وشجَّعَ المجتمعات المسيحية على السماح للمسلمين النازحين بالعودة.
وَصَرَّحَ بوريس يعقوبو، خبير دولي ببرنامج المركز في جمهورية إفريقيا الوسطى: سندعم دور القيادات في تهدئة البلاد وَمَنع خطاب الكراهية. ثُمَّ واصلَ قائلًا: ستساهم رسائل هؤلاء القادة في إقناع مواطني جمهورية إفريقيا الوسطى على قبول نتائج الانتخابات مهما كانَت حتى يسود السلام في البلاد.
كوفيد-19 وتفاقم التحديات الأمنية
بالإضافة إلى كل ما سبق ذِكره، أبرم المركز شراكة مع عشر منظمات غير حكومية؛ لدعم الفئات المستضعفة والمحتاجة وَوَقف المعلومات المغلوطة حول الوباء وتعزيز التعاون بين الأجيال وإشراك الشباب وتمكين المرأة. ويعمل المركز على تعزيز وَدَعم مجموعة إعلامية تسمى "شبكة صحافيي السلام"، والتي أنشأها في عام 2018 لتعزيز المهارات الإعلامية والممارسات الأخلاقية وتدريب الصحفيين على التطرق إلى الخلافات والنزاعات وتقديم تقارير عنها بروح المسؤولية. وَتُعَد هذه الشبكة جزءًا من حملة أوسع وأشمَل لمكافحة خطاب الكراهية في البلاد، مما يقلل من مخاطر الصراع في المستقبل. ومع ذلك، فإن جدول الأعمال هذا يأتي على خلفية تحديات كوفيد-19 التي أدت إلى تفاقم التقلبات السياسية وحالات الطوارئ في جمهورية إفريقيا الوسطى.
وأوضح يعقوبو أن "الوضع الأمني في البلاد غير مستقر منذ فترة طويلة بسبب الأزمة السياسية العسكرية، ثم زادَ كوفيد-19 من سوء هذا الوضع أكثر". وتضمنت المخاطر الأمنية المتعلقة بالوباء رد فعل عنيف ضد موظفي الأمم المتحدة والعاملين الدوليين الآخرين بعد أن تم تحديد أجنبي آخر، وهو مبشر إيطالي، باعتباره أول مُصاب بفيروس كورونا في جمهورية إفريقيا الوسطى. وهكذا، فقد دفع انعدام الثقة المتزايد وتراكم المعلومات المغلوطة ومعاداة الأجانب الأممَ المتحدة إلى تمديد حظر التجول لموظفيها، وسط تحذيرات من أن العنف قد يقلل من عمليات الإغاثة.
وقال أوغستين نونز فيكندي، مدير برنامج مركز الحوار العالمي في جمهورية إفريقيا الوسطى: عندما ظهر الفيروس لأول مرة، استاء مواطنو إفريقيا الوسطى كثيرًا حيال الموظفين من المجتمع الدولي. وأضاف: تكمن قوة عمل المركز في تركيزه على المنصات المحلية وإشراك القيادات الدينية وقادة المجتمع المدني المؤثرين الذين يتحدثون اللغة السانغوية ويعرفون الأوضاع المحلية جيِّدًا ويُوثَق في اطلاعِهِم. تساعد كل هذه المؤشرات المركز على مكافحة خطاب الكراهية والتمييز، كما تساهم في تعزيز تدابير الوقاية من فيروس كورونا بين زملائهم من مواطني إفريقيا الوسطى.
من حسن الحظ أن المخاوف الأولية من التأثير الكارثي لكوفيد-19 لم تتجسد في جمهورية أفريقيا الوسطى، على الرغم من كونها واحدة من أكثر دول العالم هشاشة وأقلها نموًا، لكن هذا لا ينفي التأثيرات السلبية الأخرى. لقد أثر الانغلاق الاقتصادي على السكان أيَّما تأثير، خاصةً وأنَّ متوسط الدخل الفردي لا يتجاوز دولارين في اليوم. كما تسبب هذا الانغلاق في زيادات كبيرة في الأسعار مع انخفاض التحويلات من الخارج وتعطل سلاسل الإمدادات. وقال يعقوبو: إن تعليق السفر الداخلي منعَ عمال الإغاثة من التحرك لمساعدة للسكان في بعض المناطق، وقد كانت لهذا آثار سلبية للغاية في السياق الإنساني.
واستجابة لذلك، تضافرت جهود المركز مع منصة الحوار بين أتباع الأديان لسد الثغرات في بعثات المساعدات الخارجية، وبالتالي فقد أدَّى خدمةً عظيمةً لتجسيد الأهداف الرئيسية للمجتمع الدولي. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، مساهمة المركز في تدريب أكثر من 80 من القيادات الدينية وأعضاء منصة الحوار هناك الذين يعيشون في بامباري وسيبوت على تدابير السلامة المتعلقة بالوباء، حيث تعلَّمَ المشاركون الكثير من الاستراتيجيات للحَد من انتشاره، كما وُزِّعَت الأقنعة الواقية وأدوات النظافة على السكان مجانًا.
مساعي المركز في مَنع خطاب الكراهية والحَد من وصم الفئات الضعيفة
لقد أدى الوباء إلى تصنيف بعض النازحين داخليًا في جمهورية إفريقيا الوسطى، البالغ عددهم 600000 شخصًا، على أنهم أشخاص خارجيون جالبون للفيروس. فَفي أواخر مارس، على سبيل المثال، دخل مسلحون إلى معسكر شمالي وطردوا جميع النازحين داخليًا، البالغ عددهم 8000 شخصًا، وَنَسبوا لهُم تهمة جَلب الفيروس وتفشيه في البلاد.
وقال نونز فيكندي: إن النازحين داخليًا هم بالتأكيد فئة ضعيفة ومعرضة للوصم، كما خطاب الكراهية يطالهم أكثر من غيرهم. وتؤكد مثل هذه الحالات مرة أخرى على الأهمية العظيمة لجهود المركز في الحد من انتشار خطاب الكراهية في جمهورية إفريقيا الوسطى. وَقَد أطلقَ المركز مبادرة في سبتمبر جمعت الشباب والنساء والقيادات الدينية في ورشة عمل لمدة ثلاثة أيام في بربيراتي، كان التركيز فيها على تعزيز الحوار بين أتباع الأديان ومنع خطاب الكراهية. وعلى الرغم من كل هذه التحديات، لايزال المركز ملتزمًا ومتمسكًا بالأهداف التي أنشئ من أجلها في ظِل استمرار عمليات إرساء السلام. وصرح نونز فيكندي: لم تثبطنا العراقيل القليلة التي واجهناها على السعي لتنفيذ البرنامج وتجسيده.
وسعيًا منه إلى تعزيز التعايش بين أتباع الأديان، دعا المركز، أئمة بارزين إلى العاصمة لتعليمهم مهارات الوساطة، بينما تهدف الخطة في عام 2021 إلى دعم المجموعات الشعبية التي تتألف من قيادات دينية ورجال الأعمال وغيرهم من قادة المجتمع؛ لحل الصراعات الداخلية. ويعمل المركز على وضع برنامج لإدراج الحوار بين أتباع الأديان في المناهج الدراسية الوطنية والتي ستكون طريقة ناجعة لتحقيق تأثير مستدام وطويل الأجل على الشباب ومستقبل البلاد، على حَد تعبير نونز فيكندي.
إن جهود بناء السلام هذه هي بصيص الأمل الذي طالما حلم به السكان الذين تملكهم اليأس، وهي سبيلهم للتغيير والعيش دون خوف أو اضطراب. إن انتخابات يوم الأحد تحدٍّ عظيم أمام البلاد، ويُعَوَّل كثيرًا على وَعي مواطني جمهورية إفريقيا الوسطى لطي صفحة العنف والدماء وبداية تاريخ من السلام والإخاء.